المسافة البعيدة بين التفسير العقلاني للحوادث والتفسير النصي المتوارث
بسم الله الرحمن الرحيم
مجهر.. المقالة الثالثة:
المسافة البعيدة بين التفسير العقلاني للحوادث والتفسير النصي المتوارث
من ضمن مقالات (مجهر) احدى عشرة مقالة كتبها المؤلف في رحلاته إلى أقاليم شرق آسيا ما بين عامي 1436 – 1437هـ
من عجيب ما شغل العديد من الشخصيات الرسمية وشبه الرسمية خلال مرور فعاليات الحلقة العلمية الأولى بعنوانها: (دور مدرسة النمط الأوسط في نشر الإسلام وإرساء منهج السلامة ومبدأ التعايش السلمي في شرق آسيا) الأولياء التسعة وعلماء أندنوسيا أنموذجا..
تناول العديد من المسؤولين الرسميين مسألة الإرهاب والتطرف، واستمعنا إلى أكثر من محاضرة ومداخله حول الموضوع، ومن أعجب ما سمعت اعتقاد البعض أن المسألة نابعة عن اهتمام المسلمين بالفقه والتركيز على الاختلافات المذهبية والعقدية، وبهذا توسع الصراع بين الفقهاء أولاً ثم صار تطرفاً أدى إلى ما تعيشه الأمة اليوم، كما كان العتب الشديد على الأمة العربية والإسلامية من جملة الباحثين حيث لم يأخذوا مأخذ العالم الغربي الذي فعل طاقاته العقلانية، واستفاد من الأخلاق والقيم وجعلها عماد الحضارة الحديثة التي صارت مثالاً للشعوب وهدفاً للأجيال.
كما شدد آخر من الباحثين حول مسألة قراءة التاريخ الإنساني، واعتمد نظريات بن خلدون وأن الذي لا يأخذ بهذه النظرية فهو ذو فكر غير لائق ومناسب.
وهناك جملة من الملاحظات التي شدّت انتباهي خلال طرح الباحثين وبعض المسؤولين الحكوميين، وهي ما جعلتني أتابع كافة النقاط التي كانت في يوم ما محور النقاشات في حلقات أربطة التربية الإسلامية باليمن.. وشعرتُ أن الواقع المتحرك في ((جاكرتا)) حيث أُقيمت الحلقة تعود بنا نحن الزمن الأول الذي عايشناه مع حصول التغيرات السياسية والاجتماعية في بلادنا.. وأن هذه البلدة لا زال نمط التفكير فيها قائماً على ما توارثته الأجيال من التعليلات التقليدية، ومنهم من ارتبط تفكيره بالنظريات الغربية وما حلله وعلله الباحثون الاستشراقيون وغيرهم من موافقٍ مؤيِّدٍ ومعارِض مفسِدٍ..
وشعرتُ أن حاجتنا كأمة تعيش هذه الحيرة وتنغمس في ظواهرها إنما هي حاجةٌ إلى قراءة جديدة وهمة أكيدة للبحث عن الحلول السديدة، التي نستشعر بها الثقة الكاملة في موروثنا الشرعي، وهويتنا الإسلامية الصحيحة، وأننا في حاجة ماسة إلى نهضة علمية شرعية تسهم في إخراج الباحثين والمفكرين من دوامة الحيرة وافتراضاتها إلى بَرِّ الأمان والاطمئنان.
وبَرُّ الأمان والاطمئنان ينحصر فيما يعالج حيرة المسلمين من جهة، ويوقف المد الفكري المتطرف، أو ـ في أقل الأحوال ـ يُحجِّم أمره ويوضح خبره.
ولعل الخوف الذي يباشر الباحث في هذه المسألة على وجهها الصحيح يمنعه من التصريح لما قد وصل إليه التطرف الفكري من امتداد فاعل وردّ فعل عاجل..
وأعتقد والله أعلم أن أفضل مخرج لمعالجة الموضوع الخروج من دائرة التفسير العقلاني أو التعليل القائم على الاستدلال الأصولي المتداول حول النوازل وفقهها الشرعي هو النظر بعمق فيما نحن نؤكد عليه من دراسة المتغيرات وأثرها في إيضاح مسائل التطرف والإرهاب والفتن المضلة.. وأنها حسب علمي القاصر الطريق الوحيد للأمة للخروج من هذه الظلمانية الفكرية والحيرة والعقلانية إلى نورانية النص القرآني والحديثي القائم على شروط السلامة الأساسية في النبوة، وهي : العصمة، والوحي، والمعجزة، والأخلاق
وهذه الأسس الأربعة أصل اعتمادنا على النص القرآني والنص النبوي في تفسير وتحليل الواقع المعاصر ومجرياته ومفاجآته، وفي تحليل وتفسير ما انبهم على كثير من العلماء والباحثين في مسائل التاريخ المتحول ونزاع الجماعات والمذاهب والأحزاب حول الولاء والبراء وحقيقة الانتماء.
ولا زال هذا التصور حتى اليوم رهن الكتب التي تناولت قواعد وتطبيقات (العلم بعلامات الساعة) وهو(علم آخر الزمان) ونحن بلا شك نعيش الآن آخر الزمان بكافة متناقضاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والدينية والدنيوية.. وقد أدى هذا التراكم المتعاقب حول هذه المسائل إلى ما تعانيه الأمة من التعصب والصراع والاختلاف المؤدي إلى ظهور التطرف وعناصر الإرهاب.
وأصل القراءة النصية لهذا العلم يهتم بمحورين أساسين :
الأول: انحدار الأمة في عوامل الفتن واستتباع الأمم، وشمول الوهن والضعف والغلبة العرقية والطائفية و المناطقية والسلالية، المؤدية إلى إثارة الطبع وتوظيف الشرع في غير ما أنزل من أجله.
والثاني: تسلسل مسيرة الفتن ومضلاتها (أوعيةً وفكراً)، وتشعّبها وتعدد نماذجها جيلاً بعد آخر، حتى إنها تمكَّنتْ زمنيا ((من حيث مسيرة الزمن)) وكذا ((عقائديا)) من حيث تمكن الفتن ومضلاتها في قواعد الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهلم جرا.. من خلال النقاط التي اعتنى فقه العلم بعلامات الساعة بتفصيلها وتتبع محطات سيرها منذ عهد البعثة النبوية حتى عهد الوفاة للذات الشريفة، ثم رصد النصوص الاستباقية المتناولة ضبط مسيرة السلامة بشروطها النصيّة المعتبرة لدى فريق، وضبط مسيرة الفتنة ومضلاتها بشروطها النصية المعتبرة لدى فريق / مجموعات أخرى.
ولعل صعوبة هذه الدراسة تصيب الباحث المستعجل بالإحباط أمام وجود القوالب الجاهزة من التحليل والتعليل العقلاني المعاصر، فيجعلها خيرَ بديلٍ يُعتمد عليه في تقييم العنف والتطرف والإرهاب، ويذهب إلى البحث والمتابعة لأقاويل المفكرين الغربيين والمستشرقين والتوليفين كلَّ مذهب، مع عِزَّةٍ وثقةٍ ذاتيةٍ ناتجةٍ عن الإحساس بالضعف والتَّقَزُّمِ أمام العقول المفكِّرة في العالمين.
ولكم شهدتُ الحماس وهو يعتري بعض الباحثين عند تناول أسماء المفكرين والحديث عن نظرياتهم المعتمدة لدى أتباع المدرسة الحديثة، وهي في حقيقة أمرها إحدى وسائل الدفاع عن ظاهرة التطرف والإرهاب ومن غير علم بذلك.
إنني هنا أضع تصوري بمسؤولية لا رغبةً في إسقاط قيمة البحث العلمي المعاصر.. ولا شغفاً بما فهمتُه وعَلِمْتُه من استنباطات علم فقه التحولات والعلم بعلامات الساعة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وإنما محاولةً لتدارك الموقف وقد آلتِ الأمورُ إلى ما آلت إليه.
ولا أدري – والله أعلم – هل بقي شيء من الوقت لهذا التدارك الذي نصبو إليه ؟ أم أن الفتنة قد أخذت بأطراف الأمة واتسع الخرق على الراقع؟
فها نحن اليوم وفي ختام الحلقة العلمية نسمع ما حدث في مدينة جاكرتا من انفجار انتحاري في أحد الأسواق متزامناً مع ما نحن وغيرُنا نبحث عن الحلول المستقبلية لصدّه ومعالجة استشرائه.
وبمثل هذا يزداد قلق الراغب في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويستشعر أن العلم الشيطاني في إشاعة القلق بين الأمة قد بلغ مبلغاً خطيراً.. ربما تجاوز مسألة الملتقيات والحلقات العلمية..
ونحن ليس لدينا غير الرجوع إلى العلم الشرعي وتقديره للأمور المستقبلية، والأمور المستقبلية مرهونة بالتعمق في دراسة فقه التحولات فقط ولا غير.
وسواء كانت دراستنا لهذا العلم ذات جدوى علميةٍ وعَمَلِيَّةٍ مباشِرةٍ لمجريات الواقع، أو كانت مجرد استنباطاتٍ معرفيةٍ لا تتجاوز الأوراق والبحوث فهو من وجهة نظرنا خيرٌ من ترك الأمور على عواهنها، حيث نرى امتداد النفع بما برز من هذا العلم بين الخاص والعام،
وكم شهدتُ اقتناعَ المستمعين من أولي الحل والعقد و حملة العلم الشرعي والفكر والثقافة بأن يولي فقه التحولات أهمية كبرى في تَبَيُّنِ الأمور على صورتها الحقيقية، وفي وضع وسائل الوقاية للشعوب من الوقوع في مضلات الفتن
وقد سرد الباحثون تفاصيل هذا العلم بحماس ومسؤولية. وقد تابعت من هذا النموذج بحثين هامين:
الأول لأحد مدرسي الجامعة في العاصمة جاكرتا وأسماه (تأثير فقه التحولات في تجديد لغة الدعوة) للشيخ رفقي محمد فتحي، من قسم اصول الدين بالجامعة الاسلامية الحكومية شريف هداية الله في جاكرتا.
والثاني للأستاذ عمر باغوث من مدرسي فقه التحولات في أربطة التربية الإسلامية، وأسماه (منهج التعايش السلمي بمنبر رجال النمط الأوسط الأسس والمرتكزات). واستطاع الملقي للبحث باعتباره أيضا من مدرسي فقه التحولات في أربطة التربية الإسلامية أن يشد انتباه الحاضرين ويقدم المواضيع ويشرحها بموضوعية وإقناع.. وأحسن كذلك أسلوب المناقشات حول الأسئلة الواردة في الموضوع.
ومثل هذا الأمر يبعث على التفاؤل، ويحرك الاستعداد للاستمرار في خدمة تفاصيل هذا العلم وتفريعاته، والملاحظ حصول الاستفادة النسبيّة من الحلقة العلميّة، رغم أن أسلوب الترجمة لا يؤدي الغرض المطلوب.
وكانت ملاحظات الشخصيات الاعتبارية موجهة إلى أهمية البحث في هذا العلم واجتماع الآراء على صعوبة لغته المطروحة، حتى لمن يحسن اللغة العربية، فكيف باللسان الأعجمي، ولكني لم أقتنع بهذا التعليل رغم اهتمامنا به ووضعه في الحسبان.
وكان عدم الاقتناع عندي لما شهدتُه في القاعة خلال أيام الحلقة من التفاؤل والتفاعل مع مواضيع فقه التحولات
والمتابع لجملة ما خاضته ألسنة المحاضرين خارج دائرة هذا الفقه المشار إليه وكذلك وضع الأسئلة من الحاضرين يرى لغةَ الحيرة في تعليل الأمور، ويرى انعكاس الواقع المتناقض لدى السائلين.
وأكثر ما شغل الأذهان وكان محور التساؤل: ما هي نتيجة هذه الحلقة العلمية وآثارها القريبة والمستقبلية على الواقع الاجتماعي؟ حتى قال أحدهم بعد قراءة الشعار الذي تصدر جدار الحلقة العلمية: هذه حقيقة تعرفها ولكن الواقع غير ذلك، فالكل يعاني مشكلة التفرق والاختلاف.. فما هو الجديد؟
وقال آخر: علامات الساعة ليست جديدة وقد تكلم منها العلماء وصنف فيها الكتب والرسائل والمؤلفات فما هو الجديد لديكم؟
وقال آخر دائماً نسمع عن المعروف، ولكنا لا نسمع عن المنكر شيئاً، والواقع يحتاج إلى تغيير المنكر.. وأما المعروف فكلنا يعرفه ويعلمه.
وقال آخر : أكثر الناس يقرؤون التاريخ سياسيا وليس شرعيا، وتمخض عن ذلك ما تمخض من الاختلاف حول مسألة وقعة الجمل وصفين والتحكيم وغيرها من مسائل التاريخ السياسية.
وقال آخر : إن نشر الإسلام السلمي في الأمة مسألة لا تنطبق على الواقع اليوم مع وجود تأثيرات الايديوليجيات الغازية من الخارج، فكيف سنطبق فقه التحولات القائم على حفظ اللسان من الذم واليد من الدم؟ وكيف نسكت على ظلم الطغاة وجور السلطان؟
وعلى هذا المنوال جاءت الأسئلة على مدى الثلاثة الأيام وسجّلت الإجابات ووثقت بالصوت والصورة، وتم التركيز في الإجابة حول فقه التحولات وجدارته بمعالجة هذه التساؤلات بشرط أن يدرس الدراسة الكافية.. شأنه شأن العلوم التي تبدأ صغيرة الموضوع ثم تتنامى وتتكامل، وأن دور الحلقة العلمية هو (إنقاذ ما يمكن إنقاذه)، ووضع النقاط على الحروف من خلال التشخيص للأمور، وربما في الحلقات القادمة تبرز شروط المعالجة النسبيّة من خلال استيعاب المعاني والاستنباطات لفقه التحولات قواعد وتطبيقات.
وعندها سيدرك الكثير من المتسائلين عن جدوى هذا العلم في تغيير الواقع ما سيُضاف إلى لغة الحوار ووسائل الدفاع عن منهج الحق، من حجج وبراهين وقراءة نصية لما تلوكه ألسنة المتخوضين والمتقولين في تاريخنا الإسلامي بعلم وبغير علم، إضافة إلى ما سيشرق في قلوب الشباب الدارسين من شرف ونورانية نصوص القرآن والسنة، بديلاً عن التصورات والأفكار الإنسانية والنفسانية.
لقد غمرنا جميعاً بعيد الفراغ من أعماله الحلقة العلمية شعور بالرضى والأمل ونحن نشاهد علامات التفاؤل والسرور على وجوه الحاضرين، المستشعرين منذ بداية الحلقة نوعا من القلق والإحباط والشعور بالانهزام.
كما تفاءلنا خيرا عندما استمعنا إلى تعليقات الجهات الراعية للحلقة وهم يرغبون بجدية أن نؤخر سفرنا لزيادة الإفادة والاستفادة، ويضعون أمامنا كافة الإمكانيات لترتيب الحلقة القادمة بأفضل الوسائل وأحسن الأسباب.
ها نحن على وشك أن نودع العاصمة جاكرتا لنحمل معنا الأمل والتفاؤل المشوب بالقلق النفسي من حوادث الزمان وتشويشات المفاجآت.
ونسأل الله الحفظ والسلامة لهذه البلاد التي لا زالت فيها بصمات أهلنا وأسلافنا واضحة الوضوح على ملامح الوجوه وسحنات الجباه.
أبوبكر بن علي المشهور
ربيع الثاني 1437هـ – جاكرتا