كلمة شهر ذو الحجة 1436هـ: مشاعر الحج مدرسة الاسلام

  • تاريخ النشر: 14 سبتمبر, 2015
  • التصنيف: المدونة

بسم الله الرحمن الرحيم

مشاعر الحج مدرسة الاسلام

1236

كم يستشعر المسلم الاستئناس الروحي ساعة مشاهدته تلك الجموع الزاحفة نحو ربها، لا مقصد لها سواه.. لبيك اللهم لبيك..

ومع هذا الاستئناس يجد العقل مجالا للتفكر في مقاصد الشريعة من هذه الشعيرة ، فالحجيج وفود شتى ومن بلد شتى ، وليس لأحد منهم مقصد في هذه الرحلة غير مولاه.
يتجه إليه بكليته من خلال القيام بأعمال المناسك المتنوعة ، من ركن إلى واجب إلى مسنون ، وكلها أعمال تعبدية لا مجال فيها لإعمال العقل أو البحث عن الأسباب والمسببات، بل هي صنف من معاني التسليم المطلق لأوامر الله سبحانه ، فالمتأمل للزخم الحاشد حول الكعبة بلباس واحد تسقط أمامه كافة الاعتبارات المألوفة لدى الشعوب وألبستهم الوطنيه وأزيائهم الحديثة يحق أن يصفهم بقوله تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) .

وآيات الله علامات أمره ونهيه ، ومظاهر سر وحيه على رسله ، وكم في هذه الآيات من تحد للعقل وللتصورات الذهنية ، وخاصة في أولئك الذين أخذ بهم منطق التعليل والتحليل والعقلانية كل مأخذ ، فأين هم من هذه الألوف الدائرة حول البيت العتيق؟ لا يلقون بالا إلى ذي عقل ولا ذي استقباح لما هم عليه وما هم قاصدون إليه؟ فدموعهم جارية ، وقلوبهم خافقة ، وأيديهم مرفوعة إلى ربها ، وأعينهم شاخصة إلى جدران بيته المكسوة بكسوة الجلال والجمال ، يتزاحمون لتلمَسَ أكفُّهم يمينَ الله في أرضه (الحجر الأسود)..
وما أدراك ما الحجر الأسود وما تاريخه العريق وما وظيفته الإيمانية؟ يقبله المشغوف تقبيل المشتاق إلى من يحبه ويهواه ، بل وفوق مستوى تقبيل من يحبه ويهواه في عالم الأشباه والأمثال ، إنها لحظات لاوصف لها لأنها لا تندرج تحت مفهوم الوصف الحسي ، بل هي صلة بين العبد وربه .

وما أسعد العبد المتصل في تلك اللحيظات النادرة مع ربه ، وكم من دائر حول الكعبة لم يتمكن من لثم حجرها إما لكبره وعجزه ، وإما لكونه من ذوي الاحتياجات الخاصة ، فهل يا ترى سيعود بخيبة أمل لأن يده إليها لم تصل؟! لا وألف لا..

إن الذي مَنَّ على الصحيح باللمس والتقبيل لن يحرم المعذور من المنح الجزيل والكرم الحفيل ، سبحانه ما أعظم شانه.. وهناك تحت باب الكعبة عشرات المبتهلين يحتضن احدهم جدار الملتزَم ، لاصقا بطنه بحجرها صارخا بالدعاء ، مستلهما عظيم الرجاء ، ويتسابق آخرون نحو الحِجر المبارك ، إنه حجر إسماعيل موطن الشهادة بالبر والأدب ، وعين الانطراح ، موطن ذكرى التسليم الكلي لأمر الله في عباده (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ منَ الصَّابِرِينَ) ويتخذ منه كل منهم موقعاً ليركع ركعتين لله خاشعاً.. إنها ركعتان مختلفتان عن كثير من الركعات التي يصليها المؤمن الموقن بسر الأماكن وتباين شرف المساكن.

ويمر الجميع على (مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ) يتأملون موقع القدم الشريف على حجر البناء يوم رفع القواعد ، ولقد نال المقام فضل الأبدية من الشرف من قوله تعالى: (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فيستقبل المصليذلك المقام ليؤدي ركعتين لله مستشعرا عظمة الخدمة للحق سبحانه ، وما يتحقق بها من شرف الخلود للأثر ووظيفته ، وتهرع الأقدام مسرعة نحو الصفا والمروة لتؤدي شعيرة السعي بينهما متذكرة ومستذكرة سعي هاجر يوم عانت وعانى ولدها ظمأ السفر وطول المنتظر ، حتى تفجرت عين زمزم من تحت قدمه الشريف تعلن للعالم عبر مراحل تاريخه أن انفعال الظواهر إحدى معجزات الخالق في عالم العقل المستحيل.

وتكتمل الحلقة الإيمانية ساعة احتشاد الناس بعد فراغ السعي لدى مواقع الحلق او التقصير ، وترى الشعر المتناثر عن الرؤوس يملأ الساحة والمكان ، والبعض يحرص على جمعه ووضعه حيث ينبغي أن يوضع .

وكم وكم يحصي العَادّ من المشاهد الإيمانية حيث سارت به أسباب الحركة ووسائلها ما بين مكة ومنى وعرفات ومزدلفة ذهابا وإيابا.

وكلها مشاهد أمن وأمان ودعوة سلام واطمئنان ، صارت مدرسة لكافة القيم الشرعية على البسيطة الإنسانية.. هذه القيم التي نشهد في الصورة المقابلة من وجه الحياة محاربتها ونقضها بطريقة وأخرى، وخاصة في نماذج السياسة الإعلامية المعاصرة ، بل وفي بعض مواقع التعليم الحديث حيث تسلب الهوية الإيمانية من الأجيال ليحل محلها الشك والرفض الطبعي ضد النص الشرعي القائم على الالتزام.

إنها مشاعر عظيمة وشعائر فخيمة ليس لنا أمامها إلا إحناء الجباه أدبا مع شرف الزمان والمكان وشرف الملتزمين من بني الإنسان لداعي المولى سبحانه وتعالى ، (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)
اللهم عرفنا شرف المناسك ، واكتب لنا مولانا ما كتبته لكل عبد ناسك، وكل ذي علم شريف سالك متماسك . اللهم آمين.

أبوبكر المشهور

جدة المحروسة ـ 27 القعدة 1436 هـ

آخر المنشورات

  • أخبار 24 أبريل, 2024 افتتاح الحلقة العلمية الرابعة في ذكرى رحيل العلامة الحبيب علي المشهور بن محمد بن سالم بن حفيظ بسيئون
    24 أبريل, 2024 افتتاح الحلقة العلمية الرابعة في ذكرى رحيل العلامة الحبيب علي المشهور بن محمد بن سالم بن حفيظ بسيئون

    برعاية كريمة من العلامة الحبيب عمر بن محمد بن سالم بن حفيظ عميد دار المصطفى، ومجلس الموجه العام لأربطة التربية الإسلامية تابع القراءة

    افتتاح الحلقة العلمية الرابعة في ذكرى رحيل العلامة الحبيب علي المشهور بن محمد بن سالم بن حفيظ بسيئون
  • أخبار 29 أكتوبر, 2023 تهنئة وشكر في ختام فعاليات الحلقة العلمية في ذكرى دخول الإمام العيدروس إلى عدن
    29 أكتوبر, 2023 تهنئة وشكر في ختام فعاليات الحلقة العلمية في ذكرى دخول الإمام العيدروس إلى عدن

    يشكر مجلس مكتب الموجه العام لأربطة التربية الإسلامية ومراكزها التعليمية والمهنية تابع القراءة

    تهنئة وشكر في ختام فعاليات الحلقة العلمية في ذكرى دخول الإمام العيدروس إلى عدن
  • أخبار 29 أكتوبر, 2023 اختتام فعاليات الحلقة العلمية الثانية والعشرين بندوة: إحياء منهجية رجال النمط الأوسط في مراحلنا المعاصرة
    29 أكتوبر, 2023 اختتام فعاليات الحلقة العلمية الثانية والعشرين بندوة: إحياء منهجية رجال النمط الأوسط في مراحلنا المعاصرة

    ندوة علمية بعنوان: "إحياء منهجية رجال النمط الأوسط في مراحلنا المعاصرة" تابع القراءة

    اختتام فعاليات الحلقة العلمية الثانية والعشرين بندوة: إحياء منهجية رجال النمط الأوسط في مراحلنا المعاصرة
  • من أقوال الحبيب

    إن من واجب العلماء والعقلاء من الحكام ومنفذي قرار العلم والديانة أن يقدروا للأمانة قدرها فيعملوا ما استطاعوا على إعادة لحمة العلاقات الإيمانية بين المذاهب والجماعات والأحزاب والفئات والطوائف والتيارات على أساس مفهوم القواسم المشتركة

    إن قراءة الأمة في مناسباتها الإسلامية تاريخها الشرعي من خلال سيرة الشهور الهجرية وذكرياتها الأساسية على عهد صاحب الرسالة خير باعث علمي وعملي لغرس مفهوم العزة بالله ورسوله ومفهوم النصرة الإيمانية تجاه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في مراحل التحول والتبدل والتحلل المعاصر

    إن الإسلام ديانة.. والديانة ثوابت وأسس ومقومات وبمقدار إعادة الشعوب علاقتها بالديانة والتدين يبدأ مشروع التحصين الإيجابي ضد فيروسات الانحلال والابتذال في حياة النساء والرجال

    الدين سلاح الإيمان والأمان.. من وجهة نظر الإسلام، أما من وجهة نظر أعدائه فهو أفيون الشعوب.. ومن حيثما نبعت ينابيع المعرفة للرجل والمرأة جاء الماء زلالا يحيي الموات، أو ملحا أجاجا يهلك الحرث والنسل والنبات.

    كن كما تريد في الكتل والجماعات والمذاهب.. فلا علاج ولا حلول.. ولكن القيمة الفعلية تبدأ بمقدار معرفتك لقيم الآخرين بقواسم الديانة المشتركة وتوحيد الجهود نحو الهدف الغائي المشترك وبهذا تبدأ الخطوة الأولى في المعالجة

    الحبيب أبوبكر المشهور

    استطلاع رأي

    ما رأيك في الموقع؟

    التصويتالنتائج